ملفـات وتقـاريـر

11 أبريل, 2025 10:05:09 م
بقلم/ ممدوح المهيني*
ما هو الفرق بين الحقيقة والخيال؟ الواقع والأحلام؟ ذلك أكبر مشكلة مع مواقف وتصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترمب؛ فعالمه هو مزيج بين الاثنين، حيث تتلاشى الحدود بينهما، وعلى المتابع أن يفكك الخيوط المتشابكة.

طريقة فهم تصريحاته وتوقع تصرفاته يحتاجان إلى مهارة خاصة. هل يقصد ما يعنيه، أم ما يفعله لمجرد الدعاية والاستعراض المسرحي؟ هل يخاطب جمهوره الأميركي المحلي أم يخاطبنا؟ هل هو جاد أم يلقي الدعابات؟ كل هذه أشياء من الصعب تخمينها أو التأكد منها.

قال ترمب قبل أشهر إنه سيحول غزة إلى ريفيرا الفرنسية، ولكن بعد تهجير الفلسطينيين منها. ضج العالم من هكذا تصريحات غريبة وبعد ذلك تراجع وقال إن ذلك مجرد اقتراح، وإنه لا يستطيع فرض هكذا حل. ما حدث، على الأغلب، أن ترمب سمع هذه الفكرة وأعجب بها وعَدّها حلاً منطقياً، ولكن لم تكن خلفها استراتيجية عسكرية وسياسية واضحة. كانت مجرد أحاديث، حتى إن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لم يصدق ما سمعت أذناه. أدرك ترمب بعدها أنها غير قابلة للتطبيق وتراجع عنها. لقد انتهى دوره، لقد أطلق الرصاصات وترك لنا مهمة التعرف إلى الضحايا، ولفريقه استخراج رواية متماسكة من فوضى تصريحاته. وزير الخارجية ماركو روبيو قدم أفضل رواية لقصة «الريفيرا». قال في تصريح له إنه ينتظر عرضاً بديلاً، وإن «هذا تحدٍ وضعه الرئيس ترمب أمام العالم. هي فكرة من خارج الصندوق كما عودنا دائماً. أعني أن ترمب ذكر ما هو منطقي، ترمب لا يختبئ وراء الأكاذيب السخيفة والتقليدية وأشياء من هذا القبيل». بالطبع ليس هذا ما كان يفكر فيه ترمب، ولكنه مخرج سياسي حاذق للأزمة كلها.

ترمب يختلف عن غيره من الرؤساء بأن لديه القدرة على التراجع من دون أن يعلن الهزيمة، ولا يمضي في مشاريع قد تسبب أزمات كبيرة، وهذه ربما ميزة تحسب له، وليست عيباً. على العكس من الرئيس بوش الابن، على سبيل المثال، الذي وجد معارضة واسعة لغزو العراق، ولكنه مضى في مشروعه معتقداً أنه سيبني ديمقراطية على الطريقتين الألمانية واليابانية. فشل المشروع، وسيطرت إيران على العراق، وظهر تنظيم «داعش» وانتهى، ولا يزال بوش يرى أن مشروعه كان تحريرياً. وهكذا حدث مع الرئيس أوباما، لديه عقيدة سياسية واضحة. الاتجاه إلى آسيا والانسحاب من الشرق الأوسط. رغم مضار هذه الخطة التي أثبتت لاحقاً عدم صحتها مع عودة الرئيس بايدن بعد ذلك بسنوات إلى السعودية، إلا أنه مضى في مشروعه ويؤمن حتى اليوم بأنه كان مصيباً. من الصعب توقع أن يعترف أي رئيس بأنه أخفق، ولكن ترمب لا يملك عقيدة سياسية صلبة؛ ما يجعل التراجع والتقدم مسألتين أكثر مرونة.

ترمب في هذا السياق يعرف حدوده، وهذه أفضل طريقة للتعامل معه. معرفة أين يضع قدميه. غالباً ما تكون على الحافة، ولكنه لا يقفز إلى الهاوية. ما هو الشيء القادر على فعله وعدم فعله. ترمب يظهر أنه قائد العالم ويفعل ما يريد، والقادة يهرعون إلى البيت الأبيض لكسب رضاه أو تجنب غضبه، إلا أنه يعرف ما هي حدوده، ولديه المرونة والقدرة على التراجع على طريقة المنتصر. وبالنسبة إليه في أحيان كثيرة إعلان النصر أهم من النصر نفسه. الإعلان عن الحصول على المال وتوقيع صفقات أهم من الصفقات نفسها.

الشيء ذاته حدث مع التعريفات الجمركية، الحدث الضخم الذي كان أشبه بالزلزال الذي ضرب الاقتصاد العالمي فجأة. السوق والاقتصاد المعولم أكبر من ترمب. لقد أدرك ذلك بعد أيام قليلة من خروجه حاملاً اللوحة الشهيرة وعليها قائمة الدول التي سوف يفرض عليها التعريفات. لقد اصطدم بالواقع وعرف حدوده وتراجع، ولكن على طريقة المنتصر كالعادة. استمرار ترمب في مشروع التعريفات يعني تدميره سمعته وإرثه اقتصادياً وسياسياً. لم تمر إلا أيام وأدرك ترمب أن عليه أن يتراجع ويوقف مشروعه. عرف حدوده كما حدث مع «ريفيرا غزة» ولم يقفز إلى الهاوية. وصرح كما هو متوقع: «ما كان لأي رئيس آخر أن يفعل ما فعلته». فريقه وجد الرواية المناسبة بعد ذلك لفوضى التعريفات الجمركية، وهذه المرة على لسان وزير الخزانة الأميركي سكوت بيسنت الذي كان وراء إصلاح الخلل، وحث الدول الأخرى على عدم التصعيد، وامتدح رئيسه لأنه أظهر الصين بوصفها طرفاً سيئاً ويمتلك قدرة تفاوضية لم تكن موجودة عند أسلافه.

مع قصة حلف الناتو نرى الأمر يتكرر ذاته. لقد تحدث ترمب عن نيته الخروج من الحلف الذي بدأ في عام 1949 بطلب من الأوروبيين خوفاً من توسع الاتحاد السوفياتي عقب الحرب العالمية الثانية قبلت الولايات المتحدة وأصبحت المسيطرة عسكرياً على قيادة الحلف، وهو ما منحها أيضاً القوة في بسط هيمنتها العالمية. الخروج منه ليس بالعملية السهلة، ولا يستطيع ترمب اتخاذ قرار مثل هذا؛ لأنه يرتطم بالواقع والمؤسسة العسكرية. يدرك ترمب حدوده وتراجعت نبرة الخروج من الناتو، وحل مكانها الضغط على الدول الأوروبية لزيادة ميزانيتها في الحلف. ونرى الشيء ذاته في حديثه عن الترشح لولاية ثالثة في معارضة صريحة للدستور الأميركي. الخيال يمتزج بالواقع مرة أخرى.

ما يحرك ترمب هو الرغبة في إظهار القوة والسيطرة، وهو سيفعل كل شيء ما لم تكن هناك حدود توقفه، ولا توجد لديه انعكاسات تضر بصورته لدى أنصاره. نرى ذلك في بناء الجدار العازل، وترحيل المهاجرين، وفصل الموظفين، وإيقاف المساعدات، وتغيير التعليم.

وخارجياً؛ كان قتل قاسم سليماني قراراً لم يجرؤ أحد قبله على فعله، ولكنه لم يتردد بفعله. المهم أن يفعلها من دون أن تتسخ يداه، والشيء ذاته يحدث الآن مع الضربات القوية على الحوثيين.

من الصعب قراءة ما يفكر فيه ترمب وعزل الفانتازيا عن الواقع، ولكن حتى ترمب لديه حدوده، وهو يدرك ذلك، ويعرف أنه تعرض للهزيمة أكثر من مرة، ولكنه يلبسها كالعادة ملابس النصر.

*إعلامي وكاتب سعودي




رأيكم يهــمنا

تهمّنا آراؤكم لذا نتمنى على القرّاء التقيّد بقواعد التعليقات التالية :
أن يكون للتعليق صلة مباشرة بمضمون المقال.
أن يقدّم فكرة جديدة أو رأياً جدّياً ويفتح باباً للنقاش البنّاء.
أن لا يتضمن قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم.
أن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.
لا يسمح بتضمين التعليق أية دعاية تجارية.