14 أبريل, 2025 07:27:29 م
بقلم/ عبدالرحمن الصوفي:
لا يمكن اختزال محمد حسين الصافي في كونه مؤرخًا أو أكاديميًا فحسب؛ بل هو عقل تأملي يتجاوز حدود التخصص لينفذ في أسئلة الوجود والمعنى والزمن. فهو في جوهره فيلسوف يسائل التاريخ لا بوصفه سردًا للأحداث، بل ككائن حي نابض، يتنفس من خلال ما يسميه بـ"النبض الكلي"؛ وهي طاقة كونية شمولية، تنظم حركة الإنسان والطبيعة والزمان ضمن بنية كونية ذات نظام داخلي وروح فاعلة. في مشروعه، لا يعود التاريخ مجرد تراكم زمني، بل يتحول إلى تعبير عن جدلية أزلية بين المادة والروح، بين الفيزياء والعقيدة، بين الحتمية الكونية والفاعلية الإنسانية. إن نظرية الصافي تُمثّل محاولة لتأسيس أنطولوجيا للتاريخ، تقرأ الوجود الإنساني لا كحادثة عرضية، بل كجزء من إيقاع كوني شامل.
في كتابه الأبرز الطاقة الكونية وحركة التاريخ، يطرح الصافي نظرية فريدة تقرأ التاريخ كحركة موجية نابضة، لا كخط تصاعدي أو دائرة مغلقة. ويعرّف "النبض الكلي" كإيقاع طاقي شامل يتجلى بأشكال فيزيائية، عقلية، وتاريخية، ويمنح الحضارات طاقتها ويحدد لحظات ازدهارها وانهيارها.
بين التصوف والحداثة: فلسفة بديلة للحضارة :
يرفض محمد حسين الصافي القراءة الغربية المهيمنة للتاريخ، تلك التي تُخضع الحضارات لمعيار التقدم التقني والعقل الأداتي، ويطرح في المقابل تصورًا توحيديًا يستند إلى رؤية كونية شاملة، تمزج بين السنن الإلهية والفاعلية الإنسانية. وفي هذا السياق، لا يكتفي بنقد المركزية الأوروبية، بل يسعى إلى إعادة الاعتبار للمنظور الإسلامي كمنهج قادر على تفسير حركة التاريخ وفق منطق داخلي نابض بالحكمة والتوازن.
ويشكل التصوف في هذا الإطار أحد الأعمدة المعرفية الأساسية في مشروعه الفلسفي؛ إذ لا يُنظر إليه كظاهرة روحية معزولة، بل كأداة معرفية لقراءة التاريخ من زاوية غير مادية. فالتصوف، بحسب الصافي، يُعيد وصل الإنسان بالعالم بوصفه كائنًا ذا معنى، ويقدّم تأويلاً للتاريخ باعتباره حركة تدافع بين الخير والشر، لا مجرد تراكم للأحداث أو صراع على الموارد.
الاقتصاد والسياسة: روح بلا مادة :
الصافي لا يكتفي بالنقد الفكري؛ بل يتجه إلى تفكيك الأنظمة الاقتصادية، وعلى رأسها الرأسمالية. في كتابه عن انهيار الرأسمالية، يرى أن النظام المالي الحديث مبني على اختلالات جوهرية: مثل طباعة النقود بلا غطاء واستنزاف الطبقة الوسطى. لكنه لا يدعو إلى الاشتراكية بقدر ما يطرح بديلاً إسلاميًا متوازنًا، يراعي الروح والأخلاق، وهو بذلك يقترب من أطروحات سيد قطب والمودودي.
موقعه بين كبار الفلاسفة:
ينحت الصافي موقعه بين التيارين المادي والمثالي في فلسفة التاريخ. ففي مقابل ماركس الذي جعل الاقتصاد محرك التاريخ، وهيغل الذي رأى فيه مسارًا للعقل المطلق، يقترح الصافي تفسيرًا "طاقيًا"، يجعل من "النبض الكلي" قانونًا حاكمًا للحضارات، يدمج بين الفيزياء والروح.
وعند مقارنته بـابن خلدون، يرى أن العصبية ما هي إلا طاقة بلغت ذروتها، بينما الحضارات عنده لا تسقط ثقافيًا كما قال شپنجلر، بل حينما تفقد توازنها مع النبض الكوني. أما نقده لـهيغل، فأساسه استبدال الجدل بالنبض، ونفي النفي بـ"توتر طاقي". وحتى توينبي، الذي ربط نشوء الحضارات بالتحديات، يُعيد الصافي تأويله بجعل التحديات مجرد اضطرابات في النبض، تتطلب استجابة منسجمة معه.
معركة مع الحداثيين العرب :
يخوض الصافي مواجهة فكرية مع قراءات محمد عابد الجابري الحداثية للتراث. فهو يرى أن الجابري وقع في "فخ المركزية الغربية" حين حاول إخضاع العقل الإسلامي لمعايير الحداثة الأوروبية. كما ينتقد تفكيك التراث إلى منظومات عقلية جامدة، ويؤكد على "حيوية الفكر والنص الإسلامي"، باعتباره كائنًا روحيًا يمتد عبر الزمن. وبالتالي استمرارية حيوية الفكر الإسلامي.
في نظر الصافي، التراث ليس نصًا ميتًا، بل منظومة متكاملة تنبض بطاقة ذاتية، قادرة على التفاعل والتجدد دون الحاجة لإسقاطات حداثية دخيلة. كما يرفض رؤية الفلسفة الإسلامية كظل للفكر اليوناني، مشددًا على جذورها القرآنية والنبوية الأصيلة.
تفسير إسلامي كوني للتاريخ
يرى الصافي أن المنهج الإسلامي يقدم تفسيرًا شموليًا للتاريخ يبدأ من خلق السماوات إلى زوالها. ويمزج بين العوامل الطبيعية والتدخل الغيبي، مثل دور الملائكة في غزوة بدر. كما يعيد تأويل أسباب صعود الدول وسقوطها بناءً على آيات قرآنية، مثل قوله تعالى: "وامددناكم بأموال وبنين...". فالقوة الاقتصادية، الديمغرافية، والعسكرية، إضافة إلى القيادة القوية والإيمان الداخلي، هي العوامل الأساسية لبناء الدول، وسقوطها كذلك حين تضعف.
خلاصة:
محمد الصافي فيلسوف تاريخ وصاحب مشروع معرفي يسعى إلى إعادة بناء تصورنا للحضارة من الجذور. إنه يقدم رؤية كلية ومتكاملة تنسج خيوط الدين والعلم والتاريخ في نسيج واحد، حيث لا يعود التاريخ مجرد سرد للأحداث، بل يصبح انعكاسًا لنبض كوني، تتحرك فيه الحضارات وفق قوانين روحية ومادية مترابطة.
ما يميّز الصافي أنه ينطلق من وعي إسلامي توحيدي عميق، دون أن ينغلق على ذاته، بل يفتح أفقًا واسعًا للحوار مع الفكر الغربي الحديث، لا سيما مع مفكرين كبار كتوينبي، وشبنجلر. لكنه في الوقت ذاته لا يكتفي بالنقد، بل يطرح بديلاً حضاريًا جديدًا يتجاوز الثنائيات المألوفة: المادة والروح، العقل والوحي، الشرق والغرب، التقليد والتجديد.
رؤيته التاريخية ليست فقط محاولة لفهم الماضي، بل هي أيضًا مشروع للنهوض، يستلهم من السنن الإلهية طاقات الحضارة، ومن العلم الحديث أدواته، ومن الدين معناه وغايـته. ولهذا يمكن القول إن الصافي يمثل أحد الأصوات الفلسفية النادرة في الفكر العربي المعاصر، التي تمتلك الجرأة على التفكير في التاريخ لا كوقائع منتهية، بل ككائن حيّ ينبض بالمعنى، ويخضع لميزان دقيق بين الإرادة الإنسانية والقدر الكوني.