21 يناير, 2025 10:00:56 م
كتب/ د. هشام السقاف:
لعل في ذلك حكمة من الله تجلت قدرته: أن تذبل وتموت الزهرة، الريحانة، الوردة والياسمينة، لحظة أن تفتح برعمها وسرى شذاها الطيب في الأرجاء، لعلها كما أقول وأدعي أن هذه الزهرة على موعد مع الله، لتلتحق بجنانه، زهرة خالدة لا تذبل ولا تموت.
والمفارقة أننا نعض على النواجذ ألما وتنساب المآقي دمعًا وتكفهر الدنيا في عيوننا، حين تلامس شغاف قلوبنا لحظة فراقية طارئة علينا، لحظة غير مردودة بعد نفادها وفي ذلك أيضًا حكمة، نتجرع مرارتها.. غصتها.. ألمها. كل ذلك نعم، ويكون الحزن المرسوم في أفئدتنا كما نتخيله وأحيانًا نتيقنه كبيرًا وكثيرًا وغزيرًا، لكن المفارقة أن أي حزن مهما كبر ومهما كثر سيبدأ كما تخيلناه بالكبر والكثرة وبالغزارة ولكنه سوف يتناقص ويصغر كلما مرت الأيام والشهور والسنون، وينتهى إلى ذكرى ليس إلا. كانت علامات النبوغ على زهرتنا المفارقة نوف عبدالرحمن محمد سالم (اللحجي) يتبدى جليًّا وهي برعم شفاف لم ينتظر اكتمال تفتحه ليبهرنا بما لديه، فأطلت على الأصباح الجميلة في الدنيا وهي تصوغ معانيها الكامنة نثرًا رائعًا، يتعدى معناه ومبناه السن الطفولية دون أن نجد له تفسيرًا سوى أنها العبقرية المبكرة.
تلقفت يمناي الكراس من أبيها الدكتور العزيز والصديق الرائع عبدالرحمن (اللحجي) وأنا أضمر أن عاطفة الأب تنحاز دائمًا للأبناء، وهذا - ربما - بعض من ذاك. لكنني وجدت بين يدي موهبة ليست بحاجة إلى من يمهد الطريق لها.
الأنامل الصغيرة والضعيفة تخط ما وراء الأفق مستقبلًا قصيرًا ولكنه مفعم بالتحدي لتترك بصمة في شغاف قلوبنا قبل أن ترحل.
فهل رحلت نوف عبدالرحمن بسرعة التفتح والشذى والعبق للزهرة قبل أن تذبل وتموت هكذا في طرفة عين؟
قبل أن تعطي كاملًا ما نسجته في جبين الشمس بإرادة وتفوق وإبهار.
اختارت وهي في هذا العمر أن تحاكي أطراف الشرق البعيد، تتماهى بوعي في نسق الحياة الرائعة لليابانيين! وكأنها تستلهم القول المأثور (اطلبوا العلم ولو في الصين) فقرب لها والدها المثقف اللبيب والواعي د. عبدالرحمن جزر اليابان إلى القاهرة المعزية لتدرس اليابان لغة وهوية ومسلكًا وتحظى بإعجاب وحب الأساتذة اليابانيين والمصريين وكل من تمر ريحه السانحة على هذه الزهرة.
وباتت محاولات والدها بالفشل في إلحاق ابنته النابغة في سلك المبتعثين للدراسة؛ لأن صاحب القرار أقل موهبة ونباهة من هذه الزهرة وصعب عليه أن يتفهم معنى النبوغ المبكر لنوف وجل ما لديه إمكانيات ماهرة في تجويع الطلاب المبتعثين والتلاعب بمستحقاتهم.
كان الدكتور عبدالرحمن لا يفوت وضع نوف في المكان اللائق بها وحسب ما تتطلع وترغب، من حر ماله وما يملك غير مقتر أو مقنن، مع هالة من الحب الكبير لها في صدره.
ولكن الحكمة الإلهية تختارها اليوم (الأحد) 19 من يناير 2025 م، تختارها لما هو أجمل وأروع وأحسن، في جنات الخلود زهرة من زهور الجنة.
وداعا يا نوف وداعا.. صبرًا أخي د. عبدالرحمن... صبرًا أيتها الأم الكريمة التي أنجبت هذه الزهرة الرائعة.
إنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
صحيفة ( الايام ) الثلاثاء 21 يناير 2025 م